الإثنين , أبريل 29 2024 الساعة 22 16
آخر الأخبار
الرئيسية / مقالات / إرث الزيدية المُجزّأ وانعكاسه على مستقبل الحوثيين.

إرث الزيدية المُجزّأ وانعكاسه على مستقبل الحوثيين.

كتابات: محمد عبدالله محمد

“..ويرخي تراث الأجيال الغابر بثقله كالكابوس على أذهان الأحياء”- ماركس

مثلما نقول بأن للیمن إرثاً سیاسیاً تاریخیاً مجزءاً، لا سیما عند استعادته وسرده بالنسبة للیمنیین بشكل عام، فإن من الأحرى أن نقول بأن إرث التاریخ السیاسي للعائلات (العلویة الزیدیة) -عند استعادتھ- لا یقل عنھ تجزؤاً وانقساماً. وإذا كان التاریخ السیاسي العام للیمنیین في عموم البلاد یلھم التجزؤ مثلما قد یلھم التوحّد، فكذلك الحال بالنسبة لتاریخ العلویین الزیدیین في “الیمن الأعلى”، فھو یحمل -عند استعادته في الحاضر من جانب العلویین أنفسھم- مفعولاً مزدوجاً: إنّه یوحد ویجزىء العلویین في نفس الوقت. بعبارة أوضح: المتن التاریخي للإمامة الزیدیة في الیمن، ولشریحة العلویین المرتبطین بھذا المتن، لایشكل نسیجاً محَكماً یتمحور حول خط نسب متسلسل بانتظام في تجربة لانتقال السلطة تمتد عمودیاً من الآباء إلى الأبناء، بقدر ما ھو موزّع أفقیاً حول شبكة معقدة من العائلات والجیوب التي انخرطت بین وقت وآخر في أدوار تاریخیة متفاوتة من حیث الوزن والقیمة، وعلاقات داخلیة تتراوح بین الوفاق والخصام والتنازع والانقسام بل والاحتراب. استعادة مادة ھذا التاریخ في الوقت الحاضر لیس من شأنھ أن یخلق لدى العلویین الزیدیین، المنضوین ھذه الأیام تحت لافتة الحوثي، شعوراً موحداً تجاه ماضي أسلافھم الذي یتكشف أمامھم في صورة مفتتة لعملیات انتقالیة فوضویة تفتقر إلى الاتساق وفقاً لقانون ثابت.

تضعنا مدونة التاریخ الزیدي أمام فسیفساء غریبة لحشد من الأئمة والأمراء العلویین المتنافسین على الاستحقاق باسم الزیدیة والنسب المقدس. لا وجود لبنیة وراثیة منتظمة عمودیاً على نحو متواصل. في سلاسل النسب، یشترك الأئمة الزیدیین في الاعتقاد بكونھم علویین فاطمیین من الفرع الحسني، ما عدا داعٍ حسيني زيدي واحد، ما لبثت دعوته أن انتھت بالفشل (1).

ویلتقي خط نسب معظمھم عند الإمام المؤسس الھادي یحیى بن الحسین من نسل ولده الناصر أحمد بن یحیى بن الحسین، لكن ھناك كتلتین غیر ھادویتین نسباً رغم إنھما ھادویتان مذھباً وفكراً: الأولى یتم تمییزھا في تاریخ الزیدیة تحت اسم “الحمزیین”، وھؤلاء ینحدرون من فرع عبدالله بن الحسین بن القاسم (شقیق الإمام الھادي یحیى بن الحسین)، وھو ما یجعلھم مصنفین من حیث النسب باعتبارھم غیر ھادویین، والكتلة الثانیة یشار إلیھا أحیاناً من حیث النسب تحت إسم “القاسمیین”، وھم الذین شاركوا في التاریخ السیاسي الزیدي لأول مرة من خلال الإمام القاسم بن علي بن عبدالله الِعیاني الذي یمتد نسبه مباشرة إلى الجد الأكبر الإمام القاسم بن ابراھیم من دون المرور بحفیده الإمام الھادي. غیر أن ھذه الكتلة الثانیة تختلف -نسباً وزمناً- عمن یوصفون بـ “الأئمة القاسمیین” المتفرعین من نسل الإمام القاسم بن محمد الرشید، مؤسس الدولة القاسمیة (توفي 1620م)، والذي یتصل نسبه أیضاً بالإمام الھادي عن طریق ولده الناصر أحمد.

وقد استأثر القاسمیون بالإمامة الزیدیة منذ بدایة القرن السابع عشر المیلادي إلى العام 1962. وإذا ما اعتمدنا على بیانات متاحة على شبكة الانترنت، فسوف يتبين بأن زعيم جماعة الحوثي یتصل في تسلسل النسب بإمام مغمور في تاریخ الزیدیة یدعى المطھر بن یحیى بن المرتضى الذي تلقب بـ”المتوكل”، وربما یكون ھذا الإمام ھو نفسه الذي اشتھر بـ”المظلل بالغمامة”. بحسب المصادر، فإن المطھر بن یحیى المرتضى أعلن قیامه بالإمامة سنة 676 ھجریة (1277 میلادیة) وذلك بعد وقوع الإمام إبراھیم بن تاج الدین في أسر جنود الدولة الرسولیة الذین اقتادوه إلى تعز حیث لبث في الأسر حتى وفاته ھناك. وھو ما قد یشیر إلى أن المطھر بن یحیى بن المرتضى بن القاسم لم یفعل سوى أنه استلم رایة الزیدیة لمواصلة القتال والتمرد ضد دولة الرسولیین حتى توفي عام 697 ھـ- 1298م، ودفن في “دروان” التابعة حالیاً لمحافظة حجة إلى الشمال الغربي من صنعاء.

بعد أربع سنوات من وفاة الإمام المطھر بن یحیى بن المرتضى، أعلن ابنه محمد بن المطهر بن يحيى إماماً ولقّب نفسه بـ”المهدي”، لكن ليس من الواضح ما كان يعنيه إعلان كهذا في تلك الفترة.

فلا ینبغي أن یذھب بنا الظن إلى أن إعلان الإمامة معناه بالضرورة الجلوس على عرش فخم لمملكة معلومة الحدود. ذلك أن مصطلح الإمامة في تاریخ الزیدیة كان یشیر إلى أشكال متباینة من النفوذ والسلطة في مجال اجتماعي وجغرافي متغیر. وفي كثیر من الحالات كانت الإمامة أقرب إلى المكانة الشرفیة منھا إلى الدولة. وما كان علینا أن ندقق في خطوط الأنساب إلا لأنھا أصبحت تعني شیئا في وقتنا الحاضر. فمن الممكن اعتبار خط النسب بنیة خفیة أو نسق تحتي نستطیع من خلاله استخلاص نتائج -قد تصیب أو تخطىء- بشأن جماعة الحوثي.

على سبیل المثال، فإن معرفة أن الحوثي لا یلتقي في خط النسب مع فرع الأئمة القاسمیین الذین انتھت دولتھم كما قلنا عام 1962 بقیام الجمھوریة، إلا عند الإمام الناصر أحمد بن الإمام الھادي یحیى بن الحسین – ھذه المعرفة قد تفیدنا جزئیاً في تفسیر التعاطف الضعیف أو المنعدم من جانب الحوثیین إزاء حكم بیت حمید الدین (القاسميين).

وھو ما یعني استبعاد أن یكون لضعف التعاطف ھذا علاقة بأي ميول جمھوریة لدى الحوثیین، بالمفھوم القیاسي الصحیح لكلمة جمھوریة ولیس بالمفھوم الإسلامي الإیراني الملفَّق. ویمكن أن یُعزَى ضعف التعاطف إلى كون مؤسسي الحركة الحوثیة ینحدرون من فرع علوي فاطمي ینتمي عقائدیاً وتاریخیاً إلى نسخة زیدیة ھادویة مختلفة بعض الشيء عن نسخة الأئمة القاسمیین الھادویین أیضاً ولكن الأكثر حظاً بین جمیع التجارب السیاسیة الزیدیة السابقة لھم. ومن المحتمل أن والد زعیم جماعة الحوثي یتصل بالنسب والفكر مع أحد أفراد الفریق المصَّغرالذي كان یشكل، انطلاقاً من ضحیان في صعدة، جیباً زیدیاً ھادویاً متشدداً یدعم ترشیح إماماً علویاً ھو الحسن بن یحیى الضحیاني (توفي عام 1924) في مواجھة الإمام یحیى حمید الدین.

ورغم أن یحیى تولى الإمامة خلفا لوالده، إلا أنه یعد مؤسس الطور الأخیر من الإمامة القاسمیة، وفي عھده ربما جرى استعادة الحلف السابق الذي كان یجمع بین أسلافه القاسمیین وعلماء الحدیث المھجنین مذھبیاً، لا سیما تلامیذ الشوكاني والمتأثرین بأفكاره والمعروفین بالانفتاح على المذاھب السنیة (ومنھم: آل العمري وبیت الإریاني وبیت زبارة وبیت الكبسي وبیت الجرافي) ذلك الحلف الذي كان یستثیر دائما ردة فعل زیدیة ھادویة تتسم بالتعصب. إلا أن یحیى مثل أسلافه لم یكن لیتخلى عن الولاء رسمیا للمذھب الزیدي، وإسناد سلطته إلى مبادىء المذھب. فھو لا یرید أن یقف مكشوفاً أمام خصومه من البیوت العلویة الزیدیة الأخرى. وھكذا، فكون الحوثیین لیسوا متعاطفین بحرارة مع إمامة آل حمید الدین، لا یعني أبداً أن لدیھم میولاً جمھوریة مضادة لمبدأ الإمامة. فالقلیل من الإلمام بتاریخ الزیدیة یكفي لفھم الموقف. وإذا لم یَسقُط الحوثیین من خارجھم، فالماضي المُجزّأ لأسلافھم سیكون جاھز فور انتھاء الحرب لإسقاطھم وتفكیكھم من داخلھم، وقد یتم ذلك عبر التفاعل مع الماضي المجزّأ لعموم الیمنیین.

والآن بقي علینا مواجھة ھذا السؤال: ھل شرط النسب العلوي الفاطمي “البطنین” الخاص بالإمامة ھو السّر العميق الكامن خلف الإخفاق الذي ما برح یطارد المشروع السیاسي الزیدي منذ الھادي یحیى بن الحسین؟ نعم، قد یكون ھذا الشرط عاملاً أساسیاً من عوامل النحس وسوء الطالع الذي أحاق بشبه الدولة الإمامیة الزیدیة، لكن لیس لأنه شرط “عنصري”، غیر أخلاقي، كما قد یظن نقاد الإمامة من الأجیال التي عاشت في كنف الیمن الجمھوري، رغم أن ھذا الشرط بالتأكید في نظر الحساسیة الًوطنیة الحدیثة ھو شرط عنصري ومقیت، ولیس بسبب كونه شرطا یجسد احتكار وتقیید السلطة في عصبیة واحدة مھیمنة على حساب بقیة الشعب، ففي التاریخ أنظمة وحكومات كانت تتصف بھذه الصفات الحصریة و”العنصریة”، سواءً بنصوص وأسانید دینیة أو وثنية أو بحكم الأمر الواقع، ومع ذلك لم تفشل لھذا السبب تحدیدا دونا عن غیره. إنھ أحد عوامل الفشل لأن عدد المشمولین بالنسب العلوي الفاطمي، في الیمن وغیر الیمن، كبیر جداً ویتزاید بمرور الوقت، فالنظریة الھادویة الزیدیة للإمامة تجعل كل ھؤلاء مستحقين على قدم المساواة بموجب النسب، وتغرس في نفوس كل ھؤلاء – بتفرعاتھم المختلفة- الاعتقاد بالحق في الخروج والثورة لطلب الإمامة، فھي تساوي نظریاّ بین العلویین الفاطمیین مثلما تساوي الجمھوریات الحدیثة بین جمیع مواطنیھا، فالزیدیة الھادویة إذاً ھي “جمھوریة” العصابة العلویة المغلقة في وجه الیمنیین. ولم تنجح الحركة الزیدیة مطلقا، رغم كل الحبر الذي سال على أیدي منظریھا وفقھائھا في التوصل إلى وضع نظام داخلي دائم وفعال لتداول السلطة بین أفراد ھذه “الجمھوریة” العنصریة الصغیرة الفاشلة للعلویین الفاطمیین كما تخیلھا الھادي.

لقد وصفناھا ھنا بالجمھوریة، لكن لیس على سبیل الاطراء، بل لإظھار كيف أنها جمعت على نحو ساخر بين العنصرية والفشل!

هامش:

(1) “في تاریخ وفاة المھدي محمد بن المطھر سنة 728 ھجریة – 1328 میلادیة، دعا أربعة أئمة من أھل البیت”، (بحسب المؤرخ الكبسي في كتابھ “اللطائف السنیة”، ص152). وكان من بین ھؤلاء المتنافسین، إمام حسیني (نسبة إلى الحسین بن علي بن أبي طالب) واسمه المؤید بالله یحیى بن حمزة بن علي بن ابراهيم …إلخ. ونحن إذ نخصھ ھنا بالذكر، لأنھ من النادر في تاریخ زیدیة الیمن أن تجد داعیاً إلى الإمامة من الفرع العلوي الحسیني، حیث كان معظم -إن لم یكن جمیع- الأئمة الزیدیین من العلويين الفرع الحسني.

وقد یتساءل القارىء عن مصیر دعوة ھذا الإمام الحسیني، فإننا سنكتفي بما ورد عند المؤرخ الكبسي الذي قال بعد أن تحدث عن نسب ھذا الداعي وبعد أن أسھب في تبجیله وتمجیده: “وكانت دعوتھ سنة 729 ولم تسعده الأیام إلى كل مرام”. أي أن مسعاه لم یتكلل بالنجاح.

شاهد أيضاً

حُجرية تعز.. سر اليمن المكنون

  بقلم :عادل الاحمدي قبل 28 عاماً، عملت لأسبوعين أثناء العطلة الصيفية، حمّالاً في شركة ...